مصطفى عزت أشهر سجين وراء القضبان المصرية ... زامل السادات وفؤاد سراج الدين ومصطفى أمين | اضغط على الشريط لمشاهدة الصورة بحجمها الطبيعي 546x420px |
لم يكن
يتخيل يوما - المواطن المصري مصطفى سيد عزت - أن كوب الشاي الذي أراد أن
يشربه على أحد مقاهي منطقة السيدة زينب بالقاهرة في العام 1948 سيكون سببا
لدخوله السجن في عهد الملك فاروق. ولم يخطر
على باله أن الحكم الذي صدر بسجنه 3 سنوات في مشاجرة مع ضابط شرطة لن يكون
الأخير، وأن الأحكام ستصدر ضده تباعا وهو خلف القضبان لتصل المدة إلى 125
عاما سجنا مع الأشغال الشاقة. هذه قصة
أشهر سجين في مصر وأكبر سجين معمر دخل السجن في الثلاثينات من عمره في عهد
الملك فاروق وعاصر مختلف السجون حتى عهد الرئيسين المصريين الراحلين جمال
عبدالناصر وأنور السادات وصولا إلى عهد الرئيس الحالي حسني مبارك، الذي
أصدر عفوا رئاسيا عن أكبر سجين معمر ليخرج إلى نور الحرية في فبراير الماضي
وعمره 90 عاما، بعد أن قضى 60 عاما خلف القضبان. «الراي»
التقته ليحكي لنا عن كيف بدأت مأساته من 3 سنوات سجنا إلى 125 عاما وما هي
أبرز الشخصيات التي رآها في السجن من المشاهير الذين كان من بينهم رئيس
جمهورية وسياسيون وصحافيون؟ • هل يمكن أن تعود بنا إلى الوراء وتحكي لنا كيف بدأت مأساتك؟
- في العام 1948 كنت متزوجا من سيدة طيبة وأسكن في منزل
بسيط بحي السيدة زينب (بالقرب من وسط القاهرة) وكنت أعمل مديرا لأحد مصانع
الشاي والذي كان يعرف باسم (شاي الشريب).
ولم يكن يعكر صفو حياتي شيء إلى أن جاء يوم كنت أجلس فيه مع
أصدقائي على مقهى وتقدمت سيارة شرطة نحونا، حيث كان الضابط يقوم بالقبض
على كل من يصادفه في طريقه.
ورفضت أنا وبعض زملائي الانصياع له، ما أدى إلى حدوث شد
وجذب بيننا، إلى أن فوجئت به يقوم بإهانتي فرددت عليه بالمثل، فقام بتحويلي
للنيابة وهناك فوجئت بأن المحكمة قضت بحبسي 3 اعوام في قضية بيع مواد
مخدرة، على الرغم من أني كنت لا أدخن على الإطلاق.
• لكن كيف وصلت بك الحال في النهاية إلى جملة أحكام 125 عاما سجنا؟
- بعد الحكم عليّ بالحبس مدة 3 سنوات تم ترحيلي إلى سجن مصر
العمومي بالقلعة بالقاهرة قبل هدمه وهناك منعوني من استقبال زوجتي ووالدي.
حينها أحسست بالظلم الجائر واليأس والحرمان، وخلال تلك
الفترة توفي والدي وبعدها والدتي، وبداخل السجن تعلمت افتعال المشاجرات مع
السجناء ورجال الشرطة حتى وصلت جملة الأحكام إلى عشرات السنين.
• وهل افتعال المشاجرات مع السجناء ورجال الشرطة عقوبتها السجن 125 عاما؟
- نعم أوصلتني إلى هذه المدة لأن قسوة الضباط في عهد الملك
فاروق تعدت الوصف، ففي إحدى المرات تشاجرت مع ضابط سجن المنيا (شمال صعيد
مصر) وكان اسمه أشرف وقد سبني بأمي المتوفاة، فقمت بالرد عليه فطلب من
جنوده فقء عيني اليمنى، وقضيت 4 اشهر بمستشفى السجن وكان الدم يغلي في
عروقي ونويت الثأر منه.
وبعد خروجي من المستشفى دخلت إلى مكتبه لأعتذر له فوجدته
يعاملني بغلظة، وهنا غافلته وأخرجت عصا من الحديد وضربته بها على رأسه 3
مرات حتى فارق الحياة.
فتم تحويلي إلى المحكمة، والغريب أن القاضي رأف بحالي وأمر بحبسي 15 عاما فقط.
• ولكن لماذا كنت تفتعل المشاجرات والشغب في السجن؟
- إحساسي بالظلم دفعني إلى ذلك، كما أنني بعد أي مشاجرة كنت
أرى الشوارع والناس والبلد من خلال سيارة الترحيلات التي كانت تنقلني
للعرض على النيابة العامة، وأحيانا كنت أتباطأ في إنهاء الأوراق الرسمية
حتى أقضي أطول وقت ممكن خارج زنزانتي.
• منذ العام 1948 وأنت في السجن هل قابلت شخصيات معروفة ومشهورة بداخله؟
- قابلت الرئيس المصري الراحل السادات وعشت معه في زنزانة
واحدة، وكان مثقفا يحب القراءة، وقابلت رئيس حزب الوفد المصري المعارض
الراحل فؤاد باشا سراج الدين، وكان مشهورا بأناقته ولا يفارق السيجار يده
إطلاقا، وكانت غرفته منظمة تحوي من الكتب والمجلدات الكثير ولا يحب أن
يزعجه أحد، ويتشاجر مع رجال الشرطة لأنهم يسببون له الضوضاء.
وأحسن من قابلتهم الكاتب مصطفى أمين وكان كريما معي جدا
ويمنحني المال والسجائر وكانت غرفته مميزة، وقال لي: لو خرجت من السجن وأنا
موجود لن تحتاج من الناس شيئا، وكان يدخن بشراهة لدرجة أن كرتونة السجائر
لم تكن تكفيه ليوم واحد.
وأتذكر أن وزير الداخلية شعراوي جمعة زار السجن فجأة ورأى
كمية بقايا سجائر مصطفى أمين فغضب وقام بطرد مدير السجن وكان يدعى عبدالله
عمارة.
• خلال فترة سجنك. ألم تحاول أن توصل صوتك إلى المسؤولين؟
- بالطبع كنت أقوم بإرسال رسائل استغاثة إلى المسؤولين على
مختلف العصور، فقمت بإرسال رسائل كثيرة إلى الملك فاروق ولم يستجب لي
أبداً، ولم أرسل إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر لأن السجون في
عهده كانت مزدحمة.
وعندما علمت أن السادات زميل غرفتي بالسجن أصبح رئيسا أرسلت
له 10 خطابات ـ عبر البوسطة ـ لينظر في أمري ويتذكرني وطلبت منه تخفيف
الحكم، إلا أنه لم يرد عليّ.
ولم أيأس وظللت أرسل بالخطابات حتى وصل عددها إلى أكثر من 100 خطاب لكن لم يرد وبعدها أرسلت له خطاب تهديد بالقتل.
• ماذا قلت في هذا الخطاب؟
- قلت: باسم عدالتكم العمياء وقانونكم وقانون بلادكم الظالم
ـ أحاطكم الله بالمذلة والمسكنة إنكم إغريقيون كما وصفكم آل سعود،
وإقطاعيون كما وصفتكم الدول الكبرى، وتسعون لسفك دماء المواطنين وقتلهم دون
وجه حق، فلابد من قتلك، وقد أعذر من أنذر.
• وماذا كانت نتيجة هذا الخطاب؟
- فوجئت بالسادات يرسل لي النائب العام وقيادات من الشرطة،
وقاموا بالتحقيق معي وحددوا لي جلسة للمحاكمة، فصدر ضدي حكم بـ 15 عاما
سجنا إضافية.
• على مدار الفترة الطويلة التي قضيتها بالسجن هل اختلفت السجون مع اختلاف فترات سجنك؟
- بالطبع فكان السجن في عهدي الملك فاروق وعبدالناصر، كان
الأسوأ، وكانوا يعطوننا رغيف خبز واحدا يضعه الجاويش على حذائه ويقذف به في
وجه السجين.
ويقول له عايزك تفطر وتتغدى وتتعشى من هذا الرغيف مع كوب مياه واحد فقط طوال اليوم.
لكن في عهد الرئيس السادات وفي السنوات الأخيرة. اختلف
الأمر، وبدأ اللحم يدخل في بعض الوجبات إضافة إلى تحسن المعاملة معنا إلى
حد ما.
• ما السجون التي زرتها في مصر طوال فترة سجنك؟
- تقريبا رأيت جميع سجون مصر، بداية من سجن القلعة خلال الفترة من العام 1948 حتى العام 1965.
وزرت سجن قنا لمدة سنة، وكذلك المدة نفسها في سجن أسيوط، وقضيت 12 عاما في سجن الزقازيق وسجن طرة وسجن طنطا ثم سجن الإسكندرية.
وأفضل هذه السجون كان سجن طنطا، كان مريحا وسمحوا لي بطلائه بالزيت، وكان معي أكثر من 10 قطط بزنزانة السجن، لكنه في النهاية سجن.
• كيف كنت تقضي يومك داخل السجن منذ الصباح حتى يأتي المساء طوال هذه السنوات؟
- بعيدا عن أي مهام يومية يمارسها أي سجين من غسيل وتنظيف
في الصباح، كنت أمارس الرياضة وألعب الكرة مع زملاء العنابر، هذا إن سمحوا
لنا بذلك، وفي غير ذلك كنت أهوى كتابة الشعر والقصص ومقالات أخاطب فيها
الزمن والحياة، وأسعد أيام حياتي عندما أقوم بتعليم أفراد العنابر القراءة
والكتابة.
• طوال فترة سجنك ألم تحاول الهرب؟
- أبدا لم أفكر في ذلك، بالعكس كنت أشعر باطمئنان الضباط نحوي، كما أن جسمي الهزيل لا يسمح بذلك.
• لـكن كيف خرجت من السجن على الرغم من أنك لم تكمل فترة الحكم ولم تكن أيضا حسن السير والسلوك؟
- بعد وفاة السادات أصابني الإحباط من فكرة الرسائل
وقاطعتها إلى أن أشار أحد الزملاء إلى أن الرئيس مبارك رجل حكيم ويمكن أن
يستجيب لطلبي.
وبالفعل أرسلت له رسالة مهذبة وفوجئت بمأمور السجن يستدعيني
ويقول لي: «إن الرئيس أرسل لي هدية، وفوجئت بكرتونة بها وجبات من السمك
وكرتونة تفاح وأخرى بها سجائر من النوع الفاخر».
وبعد هذا الحادث بشهرين أرسل لي الرئيس عفوا رئاسيا بالإفراج عني بتوقيع منه شخصيا، ولا أستطيع أن أصف لك سعادتي في هذا الوقت.
• وماذا كان شعورك لحظة خروجك من السجن؟
- على الرغم من سعادتي الكبيرة، إلا أن الحزن لايزال يخيم
عليّ، خاصة بعد أن علمت أن زوجتي توفيت واستشهد ابني في حرب 1973 وابنتي
الوحيدة لا أعلم عنها شيئا، تارة يقولون لي إنها حية ترزق وتارة أخرى
يقولون لي إنها ماتت في حادث.
ولا أعرف عنها شيئا حتى وقتنا هذا، وأبحث عنها في كل مكان، وسأظل أبحث عنها بالصحة الباقية لي في جسدي الضعيف والنحيل والذي لم يتبق منه سوى أطلال.